إيهام
من كتاب "فقاقيع"
يجلس الرجل جواري في سيارة الأجرة، والتي تقطع أحد شوارع القاهرة المزدحمة.. يمسك بشطيرة مليئة باللحم، والدهن يوشك على أن يسيل منها ليغرقنا جميعًا حتى الأعناق. يقضم منها في كفاءة يُحسد عليها.
هنا يدق جرس الهاتف المحمول فيمد يده الملوثة بحذر ليلتقطه.. ثم تسمع المحادثة:
"نعم.. نعم.. أنا في الطريق.. منذ قلت لي هذه الكلمات القاسية وأنا لا أنام ولا آكل.. أقسم أنني لم أذق طعم الزاد منذ ثلاثة أيام"
ويمسح قطرات الدهن على شفته السفلى، وينظر لي بعين نارية مهددة.. الويل لمن يعترض. لكني فعلًا معجب بشهية هذا الذي لا يذوق طعم الزاد.. إنه يواصل الكلام:
"أنا في الإسكندرية.. أقسم أنني في شارع صفية زغلول.. سوف أكون عندك خلال ثلاث دقائق.. لا تقلقي أبدًا"
أنظر إلى شوارع القاهرة المحيطة بنا وأتنهد.. هو رجل دقيق كذلك.. في الإسكندرية وفي شارع صفية زغلول. ترى هل هي زوجة غاضبة أم شريكة عمل تطالب بمستحقاتها المالية؟ وماذا ستقول عندما تكتشف أنه لن يكون عندها بعد ثلاث دقائق ما لم يطر في الهواء طبعًا؟
ينهي الرجل المكالمة وبلا أدنى ذرة من التردد يواصل التهام الشطيرة الدسمة. خطر لي أنه يتمتع بضمير صافٍ فعلًا.. كل هذا الكذب وأمام شهود يعرفون كم هو كاذب، وهو يملك صفاقة تسمح له بأن يغرس أصابعه في عيوننا لو اعترضنا.
لقد رأيت موقف الكذب على الهاتف هذا كثيرًا، وفي آخر مرة كان الفتى يكلم حبيبته على الهاتف وهو يمسك بيد حبيبته الأخرى! أعتقد أن الهاتف الذي ينقل صورة المتكلم سوف يجلب متاعب عديدة على أمثال محترفي الكذب هؤلاء، لكني لن أندهش لو ظهرت تقنيات كذب جديدة تناسب الموقف.. سوف تُباع خلفيات جدارية تمثل شوارع الإسكندرية ليلصقها وراءه أثناء الكلام، وسوف يكون هناك ممثلون يقومون بدور باعة الكورنيش في الإسكندرية، ولربما تدّخل المخرجون ليستعملوا حيل الكروما بحيث تبدو أمواج البحر حية يقظة وراء ظهره.. وسيكون هناك فنانو ماكياج يضيفون على ملامحه لمسات تجعله يبدو مرهقًا مسهدًا ناحلًا.
إن الكذب يتطور مع الزمن ليتحول إلى فن من الفنون الراقية، وعلينا أن نفهم هذا قبل فوات الأوان!
د.أحمدخالد توفيق